Sunday 8 June 2014

أقترح أن نبقى سعداء

على قدر خوائي الذي يثقلني, أنا ممتلئة. أنا ممتلئة بالماضي و الحاضر و الآت. فراغي ملىء بتفاصيل تركها العابرون و خفتي مثقلة بغيابهم و غيابي الشخصي, و هذا ليس بجديد عليّ, أن أكون الشيء و عكسه, حقاً ليس بجديد عليّ.
1.
ذكرى حب طفولي خطرت على بالي من دون أن أستدعيها. كان أول شخص أستطيع أن أتجرأ و أقول أنه “بتاعي” أو ” حبيبي” و إن كنت أتخيل أن هذا بالفعل حُب حقيقي.و بالرغم من إنني حين أحاول أن أذكر من أحببتهم حقاً, إسمه لا يندرج في تلك القائمة, حين تسأله هو, إسمي هو فقط في قائمته بالرغم من إنه على وشك الزواج من آخرى.
كنا صغار. أطفال. خمسة أو ست عشر عاماً على الأكثر. أتذكر حين قررنا أن نتقابل في موعد, لم نعرف إلى أين نذهب, فظللنا نمشي, و نمشي و نمشي من دون أي وجهة, كلانا يحمل زجاجة مياه و نتحدث عن كل شيء, نخطط لمستقبلنا الذي ظللنا في ذلك الوقت أنه شيء نستطيع أن نتحكم به, أتذكر تحديداً أننا تحدثنا عن المبلغ الذي يحمله في محفظته و كان حوالي ثلاثون جنيهاً, و كنت أحمل أنا مثلهم في حقيبة يدي. أستمررنا بالمشي جنباً إلى جنب, لم يتجرأ حتى على أن يمد يده و يمسك بيدي سوى عند عبورنا إحدى الشوارع. سيظل هذا الولد يمثل لي اللون الأخضر في حياتي طالما حييت, كان نقي, نقي بشكل مبالغ فيه, و لا زال, بشكل أو بآخر, أنا متأكدة أنه لا زال قلبه يطرح قلوب بيضاء و حضوره هواءه عليل برائحة الشتاء. لا أعلم لم تذكرت ذلك الموقف بالتحديد, و لكنني في المرتان التان تثني لنا الخروج فيهن في موعد, أصبحنا نمشي هكذا على غير هدى, نتوه سوياً, من دون أي خوف, و حين نقرر أنه حان وقت الرحيل, كنا نتوجه لأقرب مترو و يعود كل منا إلى بيته. حين وضعنا الزمن صدفة أمام بعضنا قبل شهور قليلة, اي بعد مرور حوالي ثمان أو تسع أعوام, قال لي أنه على أتم إستعداد أن يدفع عمره بأكمله في مقابل يوم من هذه الأيام, قبل أن يمسحني نهائياً من كل مواقع التواصل و كل برامج الشات و الذي كنت أتوقعه أن يحدث لأنه مع آخرى الآن. لم أحزن حين أختفى من دون تبرير و خصوصاً بعد كلماته تلك, بالعكس, أبتسمت و قبلت شاشة هاتفي الخالية منه بعيناي و أنا أتمنى له الخير بوسع قلبي, و أتمنى في سري أن يضعني القدر أمامه بعد تسع سنوات آخرى, و هو أب حنون و زوج صالح, لأخرى, ليست مثلي, آخرى سيكون معها في أمان, آخرى لن يستيقظ يوماً ليجدها حزمت أمتعتها و رحلت و تركت له مذكرة تقول ” أسفة, لقد حاولت فعلاً” و هي تعرف أنها لم تحاول بالقدر الكافي الذي يستحقه أوي. فلتكن بخير, أينما كنت, أيها الأخضر.
2.
الحُب .. الحُب كله\ ع الحُب مش عارفة أقوله\ أقوله إني بحبه\ في الحٌب أنا طالبة قُربه
كانت تلك الصدفة المفتعلة التي يفتعلها كل صباح أثناء محادثتا الهاتفية التي تدور بيننا كل يوم, في اللحظة التي أقول فيها ألو يومياً تكون تلك الأغنية تلعب على مسجل سيارته. أبتسم في صمت. و يقول هو متقمصاً دور عبده العبيط ” ايه ده, خدتي بالك يا دودو أنه دايماً و إحنا بنتكلم الأغنية دي تشتغل؟” أرد قائلة, هي إشارة من الرب لأني أحبها, يستهزأ هو بي لذكري الرب كأي مٌلحد عربي أصيل و نتابع حديثنا عن اللا و الأي شيء ككل صباح. أحب الصدف المفتعلة. الصدق البشرية التي لا دخل للقدر فيها. فصدف القدر هي صدف أوتوماتيك, لا تحتاج إلى أي مجهود بشري, و لكن أن يبذل أحدهم مجهود ليفاجئني أو يلفت نظري, هي صُدفي المفضلة.
ذكرت لي صديقة مشتركة بيننا بأنه لا يجب أن أنخدع بإهتمامه هذا, فهو يعامل الجميع بهذه الطريقة, و إن كان يبدي إهتماماً حقيقاً بكِ كان سيأتي عند بيتك بسيارته التي أبتاعها له أهله, و التي نادراً ما يستخدمها سوى للفت إنتباه البنات, فهو يستعمل المواصلات العامة في الغالب, و حين يأتي بسيارته تعرفين بسهولة أن هناك فتاة جديدة, و طالما لم يلعب معك حيلة السيارة الفخمة إذاً فهو غير مهتم أو فقط يضيع وقت.
لم أرد عليها لأنني من دون أي شيء أعلم تماماً أنه غير مهتم جدياً, هو مهتم و لكن ليس “مهتم” و أنا الأخرى كذلك, فأنا أعلم تماماً أنه يملأ فراغه بي, و هذا ليس بالشيء اللطيف, و لكن, حبيبي, صاحب الصدف المفتعلة, أوقعه القدر معي أنا, فلغبائه, يحاول المسكين أن يملأ فراغه بي أنا, فكيف يا أبله تملأ فراغ بكيان عبارة عن فراغ, أستمتع بعلاقاتي مع هؤلاء الأشخاص الغير لطفاء, أو بمعنى أصح, من يستغلون مشاعر غيرهم لتعويض نقص ما في حياتهم أو ملأ فراغ ما يؤرقهم, فمعهم أستطيع أن أمارس تناقضاتي الفكرية بكل راحة ولا أكترث بأي أذى عرضي ممكن أن أصيبهم به, فهم يستحقونه أو على الأقل, ليسوا ملائكة و هالاتهم مدنسة بأية حال, و ما لاحظته في أغلبهم, أنهم دائماً يعيشون دور الصالحون بكل إتقان, و يستنكرون أي مكروه يحدث لهم. لا يهم. كانت ذكرى السيارة و أغنية ريما خشيش هى ما قصدت التحدث عنه, و إن كنتم تتسألون عما حدث بيني و بينه, كنا سوياً في إحدى الأيام, و كأنما مر شخص خلع عنه حجاب أو ستارة ما, فرأيت كل قبحه دفعة واحدة, رأيته شخص فارغ, أناني, يستغل قلب لطيف فطلبت منه أن تكون هذه آخر مقابلة بيننا و ألا يحاول أن يكلمني على الأقل لمدة, أستغرب و صُدم, و بالفعل لم يحاول أن يكلمني و لم أحاول أنا أن أكلمه, ولا أذكر له أو منه مواقف كثيرة بالرغم من أنه حدث بيننا الكثير, و لكنه لم يترك لي الكثير منه, حيث أنه كان دائماً ما يأخذ فقط, و قد قرأت في مكان ما, أنه إن كان عطائك لشخص ما يتركك فارغ مرهق, فأعلم أنك تعطي الشخص الخاطيء. و هو من إحدى الشخصيات الخاطئة التي بددت عليها الكثير من طاقتي, من باب التبديد و ليس إلا التبديد.
3.
أعلم الآن أن فراغي مبطن بالذكريات, بالأشخاص, بالراحلون و الباقون, بالحاضرين الغائبين و الغائبين الحاضرين. أنا لست خالية تماماً, أنا مليئة بهم و بي, و سر معاناتي الدائمة هو إني طالما ما حاولت أن أتخلص منهم أو أتجاهل وجودهم, و حين نجحت في هذا, تخلصت من أجزائي أ،ا التي طمسها وجودهم, فبتُ ناقصة و ضعيفة. و الشخصيتان التي تحدثت عنهم ليسوا سوى شخصيتان ثانويتان في حياتي و إن كانوا أقل من ثانويتان حتى, ولكنهم جزء مني على الرغم من ذلك, سواء الأول الذي تخليت عن ذكراه بكامل رضائي أو الثاني الذي أتجاهل كل ما تركه لي أو أخذه مني, تصرفي مع الإثنان كان قمة الغباء, فأنا فتاة التفاصيل الصغيرة, أنا التي تتذكر المبلغ الذي كان في محفظة صديقها الأول و الأغنية التي كانت تلعب في سيارة شخص كان وجوده غير معرف في حياتي, تجاهلي و رفضي لذكرياتهم و ذكريات غيرهم أفقدني ملامحي, فأنا أوزع قطع مني بإستمرار على هذا و ذلك, و أفتح قلبي لهذا  روحي لهذه و عيني لتلك, فكلما كنت أحاول أن أرسم حدود تواجد البشر في حياتي, كلما حاولت أن أثبت أن أنا فقط أملكني كلما فتحت أبواب روحي لإستقبال عابرون جدد, فليأخذ هذا جسدي و تسكن هذه قلبي و يمتص هؤلاء ما تبقى من روحي مني و يتركوني من دون أي شيء, أهكذا يصل البشر إلى الخفة الغير محتملة؟ تجاهلني كونديرا و لم يرد لبلاهتي و سذاجة سؤالي, فأي شخص يأخذ أي جزء يترك قطعة من فراغه أثقل مما أخذ. الفراغ ثقيل. ثقيل جداً, و لكن لا بأس. ليس هناك ثقل مطلق أو خفة مطلقة, من يدعى الخفة و الذي يحافظ على مسافات بين الناس و بينه و يصر على أن يذكرهم بإن وجوده مؤقت هو أثقل الناس على القلب, من يقترب ثم يبتعد هو ثقيل و مرهق, أقول لهؤلاء و لنفسي, لا تقترب إن كنت لا تنوي البقاء, بالقلب ما يكفي من الحنين. لن أبحث عن الخفة أو الثقل بعد الآن, سأحتضن كلاهما, سأفتح راحتا يداي و أمدهما, و أتبع الحُب أينما كان, كما تتبع زهرة عباد الشمس, الشمس.
4.
أقترح أن نبقى سعداء

No comments:

Post a Comment